My Blog List

Thursday, January 20, 2011

أكاذيبهم التي انفضحت – فهمي هويدي


انتفاضة الشعب التونسي لم تكن زلزالا سياسيا عالي الدرجة فحسب، ولكنها مثلت لنا صدمة ثقافية أيضا.

دعك من أنها جاءت تصديقا للمقولة الشائعة في خطابنا السياسي التي تتحدث عن النوازل والمفاجآت التي نتوقعها من الشرق فإذا بها تداهمنا من الغرب.

إذ الأهم أننا كنا قد تصورنا أننا ودعنا عصر التحولات الانقلابية التي تثور على الأوضاع المهيمنة، حتى كاد اليأس يدب في قلوبنا من إمكانية تغيير الواقع، بعدما عاشت المنطقة العربية في حالة من الجمود السياسي لأكثر من عقدين من الزمان، رغم توافر أسباب الانفجار الشعبي في أكثر من بلد عربي.

وكنت أحد الذين دأبوا على القول بأنه طالما أنه لم يعد الموت السريري مؤديا بالضرورة إلى التعجيل بحلول أجل الوفاة، وطالما أنه من الممكن أن يبقى المريض في غرفة الإنعاش لعشر أو خمس عشرة سنة معتمدا على الأجهزة والأنابيب التي تسمح باستمرار تشغيل القلب، فإن الوضع يمكن أن ينطبق على السياسة أيضا، بحيث يظل المجتمع مسكونا بالغضب ومهيأ للانفجار لفترات مماثلة، دون أن ينفجر بالفعل، نظرا لجبروت الدولة الحديثة وإزاء ما توافر لها من إمكانيات غير مسبوقة للقمع والقهر.

ولئن صح ذلك بالنسبة لأغلب الدول العربية، فهو أصح فيما خص تونس، وهو البلد الصغير الذي يسكنه عشرة ملايين نسمة، ويعيش منذ نحو ربع قرن في قبضة نظام بوليسي شديد القسوة والشراسة، استخدم أبشع الأساليب لقهر الناس وترويعهم.
من ثَمَّ كانت المفاجأة أن الانتفاضة وقعت، وفي البلد الذي ظننا أنه آخر مكان يمكن أن ينفجر فيه غضب الناس، على نحو يسقط النظام البوليسي ويطوي صفحته إلى الأبد.

لنا في شأن ما حدث هناك كلام آخر. لكني معني في اللحظة الراهنة بما أحدثته المفاجأة من صدمة ثقافية، هدمت سلسلة الأفكار المغشوشة التي جرى الترويج لها خلال السنوات الأخيرة لتثبيط الناس وإقناعهم بأن الأوضاع القائمة هي قدرهم الذي لا فكاك منه.

من ثَمَّ فخيارهم الوحيد أن يرضوا بالمقسوم والمكتوب وأن يتكيفوا مع ما هو قائم، بمعنى أن يتغيروا هم لأنه لا أمل في تغيير الأوضاع القائمة.

لقد بذل جهابذة الموالاة ومنظرو النظام جهدا كبيرا لمحو فكرة الثورة الشعبية من الأذهان، حتى باتت تلك الفكرة موضوعا دائما للتندر من جانبهم.
وظل خطاب أولئك الجهابذة يلح على ضرورة التحرك من خلال القنوات والمنابر المزيفة التي اصطنعتها الأنظمة، بحيث تظل الدعوة إلى التغيير تحت رقابتها وسيطرتها،

ولكن الذي حدث في تونس بدد تلك الأفكار وأعاد إلى الأذهان بقوة فكرة التغيير الذي تفرضه الجماهير رغم الانسداد السياسي، أي من خارج الأطر والقنوات الخاضعة للرقابة والتوجيه الرسميين.
وأثبت أن إرادة الجماهير تستطيع أن تفرض نفسها، وأن تتحدى جبروت الأنظمة وسلطانها، إذا ما تسلحت بالتصميم، وكانت مستعدة لدفع ثمن موقفها الرافض للاستبداد.

على صعيد آخر فإن بعض المنظرين والباحثين ما برحوا يكررون على أسماعنا أن الجماهير لا تتحرك دفاعا عن الديمقراطية التي لا تشكل مطلبا أساسيا لها، ولكنها تتحرك فقط دفاعا عن احتياجاتها المعيشية، ولطالما استند هؤلاء إلى استطلاعات وقياسات للرأي دسُّوها علينا واستخلصوا منها أن شوق الناس إلى الحرية والكرامة أقل مما يتصور المثقفون،
ولكن مظاهرات تونس أعادت الاعتبار إلى قيم الحرية والكرامة الوطنية، وكان ذلك واضحا في اللافتات التي رفعت وظلت نداءاتها تركز على قضية الحرية وتندد بالاستبداد بكل صورة.

كذلك استهان أولئك الجهابذة بمقومات الهوية ورياح التغريب التي تعصف بمجتمعاتنا. ثم اكتشفنا أن تلك الاستهانة كانت من الأسباب التي فجرت غضب الناس وأثارتهم ضد النظام. جسدت ذلك الغضب على سبيل المثال كلمات أغنية مغنى «الراب» الذي اتهم نظام الجنرال بتضييع الشباب وضرب انتمائهم العربي والإسلامي.

قال لنا الجهابذة أيضا إن العلمانية هي الحل، وإنه لا ديمقراطية بغير علمانية، واختزلوا مشكلتنا في مادة الدستور التي تنص على أن الإسلام دين الدولة. ووجدنا أن كل ذلك توفر للنظام التونسي، ولكنه لم يؤد إلى شيء مما ادعوه.

فنظام السيد بن علي كان صارما في علمانيته التي قادت البلاد إلى جحيم الظلم وليس إلى سعة الديمقراطية الموعودة وإلى الاستبداد وليس الحرية.

كما أن دستور تونس خلا من أي إشارة إلى الإسلام كدين للدولة. لكن ذلك لم يحل شيئا من مشاكل المجتمع، ولا حال دون تفاقم أزمات البلد وتفجير غضب الناس.

لقد أطاحت ثورة الجماهير التونسية بالنظام المستبد حقا، لكنها أيضا فضحت سلسلة الأكاذيب التي يروج لها بعض المثقفين لتخدير الناس وتيئيسهم
. (للكلام بقية بعد غد بإذن الله).
..........................

No comments:

Post a Comment